أحب الكٌتاب و لست منهم...

أحب الكٌتاب و لست منهم...

زرت البارحة، صديقا غاليا علي جدا .. يعيش في مكان نائي... و جرى بيننا حديث طويل و غريب. أنا تحدثت عن دنيانا و عن موضوع العصر المؤلم فيها، و هو، تحدث عن الطبيعة و عن جمالها .. و لولا تفاعل أخير، لقلت بأن حديثنا كان حديث طرشان بكل معاني الكلمة ..

و كان كلامي له جديا. و قد  اخترت أن يكون عبر صور تعبيرية مختلفة رتيبتها له، عن وعي، حسب عدد كلماتها ؛ حتى يسهل تقبله لها، على أن يرتبها هو فيما بعد، في ذهنه حسب ما يرى.

~ الصورة الأولى من الفن التشكيلي : إنها لوحة من الألم الشديد. تختلط فيها ألوان الإهانة .. مع ألوان الذل .. و ألوان الموت، و ذلك في كل رقعة من مساحتها الشاسعة...

~ الصورة الثانية من مسرح مرعب : إنهم أناس يتفرجون بعقول مكبلة، على محرقة تشتعل فيها فلذات أكبادهم في قلب حلبة مسرحهم. و بدلا من أن يغلب عليهم الحزن إثر هذا المشهد الرهيب، تراهم يتبادلون أطراف الحديث في مدرجاتهم كما لو كانت الحياة طبيعية تماما ؛ و كما لو كانوا غير لاحقين في ذلك الفرن الفتاك، الذي تنبعث منه روائح احتراق أجساد بني جلدتهم المساكين...

~ الصورة الثالثة من أرض الواقع : إنها عبارة عن شعب مستضعف حد الإذلال، و مهان حد الشفقة .. و لا "هَحْ" واحدة تستحق الذكر في سمائه ! و هو شعب يقضي كل وقته رغم حاله، و هو حادق في شاشات يجتمع عليها أفراد أسره، و منغمس في صفائح فردية تتكلم لكل واحد منه لوحده على حدة و ما 'مِن دارِي".. 
و لا أحد يلاحظ أن مصدر تلك الشاشات و تلك الصفائح و محتوياتهم و كذلك تسهيل انتشارها هو نفسه الذي تسبب و مازال يتسبب في إذلالنا المهين و إهانتنا المذلة... 
أما بالنسبة لمن يُتَّسم فيهم بأنهم أهلٌ لإخراجنا من مأساتنا  - لأنهم أهل وعي و أهل صوت فينا -  فهم للأسف، محل لخيبات موجعة لنا و لصدمات قاتلة... ألا نتفاجأ في كل مرة، برؤيتهم مرتاحين، بلقاء قادة الطابور الخامس فينا و بلقاء قادة الأعداء أنفسهم بشحمهم و دمهم ؟  ألم نرهم يتسابقون في الترحيب بهم، مجسدين سعادتهم معهم، بصور تظهرهم فرحين كالرضع في أحضان أمهاتهم...؟

كانت هذه إذا، هي الصور التي عرضت على صديقي و بإطناب تجاوز كثيرا الكلمات التي كتبت لكم هنا، للفت انتباهه إلي موضوع يؤرقني و لكنني لم ألمح فيه ما يوحي بأنني نجحت في ذلك و استطردت مضيفا نقطة أخيرة : 
《 إن أمتنا المنكوبة، هي أكثر شعوب كوكبنا عددا (ثلث سكانه أو أقل بقليل)، و أوسطهم مكانا (حيث ثلاثة أرباع تاريخ البشرية و كل أمجادها) و أكثرهم خيرات (جل وقود الدنيا ملكه) و أفضلهم دينا و ثقافة...》
                                        
                                          ****
حقيقة، أعرف أن موضوعي حساس جدا بالنسبة لصديقي. فالوضع الذي أحدثه عنه بالذات، هو الذي أثر فيه و جعله يعتزل وظيفته في العاصمة، ليعيش بقية عمره، في خلوة قصرية، بعيدا عن صخب المدن و عن جدال مثقفيها... و ذلك، في منحدر في وسط البلاد، معزول عنها بحافة هضبة بنية جميلة من جهة و بتلال صفراء، ترصعها في نقاط متفرقة، أعشاب خضراء، من جهة أخرى...

                                       ****
إنه في منتصف العمر .. سمح المحيا .. سهل المعشر .. و قليل الكلام. وصلت مكانه وقت غروب الشمس.
أخذ منا السلام و الترحيب وقتا طويلا، كما هي العادة في بيئتنا. ثم أنه لم تتأخر عنا، مائدة فاخرة، تلتها جلسة سمرية جميلة تحت قمر ساطع، على سرير تقليدي، يغذيها شاي عذب كان هو بنفسه من يعده بإتقان. و كانت شهب الجمر تتطاير من الفرن المحاذي مضفية هي الأخرى، لمسة سحرية على المشهد... 
و كان هو، رغم كل شيء، و كما أشرت أعلاه، عصيا على الدخول معي في موضوعي  منتهزا فرصة كل توقف في كلامي ليتحدث مبتسما عن دفئ الطبيعة المحيطة بنا و عن جمالها، معلقا مثلا، على عواء الذئاب الذي يقطع من حين لآخر، سكون ليلنا، و عن تسابق المزون الرائعة و القمر الفاتن، فوق رؤوسنا و عن أشياء أخرى جميلة من هذا القبيل... 
إلا أنه في الأخير نزل عن جواد عناده و تكلم... لابد خصاله الفضيلة التي أعرف فيه هي التي جعلته يقبل بذلك عندما أحس بأن السمر قد انتهى و أنه لم يبق من الليل إلا سويعات قليلة بالكاد تكفي لنوم هادئ في هذا المكان الخلاب. و قال : 
《 فهمتك يا صديقي الغالي! 
لو لم يكن الأفق أسودا و يائسا، لما وجدتني هنا. 
لقد متنا جميعا يوم أن استغلوا ديننا و ثقافتنا ضدنا 
صديقي نحن غارقون في بحر من المعلومات المغلوطة و من الكلام الخطير (يقصد الإعلام) .. و في البدء كما يقول الآخرون الكلمة و لن أزيدك على ذلك...》

إنه الإختراق إذا، في أبهى تجلياته ! قلت في نفسي.

انتهى كلام الصاحب هنا و انتهى كلامي..
و كانت ليلة جميلة و نوما مريحا في كوكب آخر..

الدكتور :سيد احمد ولد باب