تعليقا على تدوينة معالي الوزير محمد فال بلال: ذاكرة الأمكنة..

تعليقا على تدوينة معالي الوزير محمد فال بلال:
ذاكرة الأمكنة..

معالي الوزير..
السبب يعود إلى جمهورية همزة الوصل؛ فقد عملت بشكل ممنهج على طمس كل ما يشير إلى هوية هذه البلاد، بما في ذلك أسماء الأماكن. لقد رقمت الولايات لتختفي أسماؤها من التداول الرسمي؛ فأصبح الحوض الولاية رقم واحد، وتگانت الولاية رقم تسعة…
وعمدت إلى أحياء العاصمة التي أنشأتها بحساب مسافة دقيق؛ تبعد عن أقرب مدينة في الشمال ( البيظان) مائتي كيلومتر، وعن أقرب مدينة في الجنوب (لكور) مائتي كيلو متر، وبذلك فهي تقع على نفس المسافة من المجموعتين؛ أي أنها لا تنتمي لأي منهما. سمي الحي الإداري من العاصمة كبتال، والحي السكني لكصر. ليس للإسمين أي دلالة مكانية؛ الأولى كلمة فرنسية، والثانية تطلق على أي تجمع سكاني. ولم تكن الأحياء الأخرى أحسن حظا؛ فقد أطلقت عليها حروف لاتينية: R-k, أو أرقام مثل الولايات: 5-6.
تمثل الأسماء العربية التي اجتاحت الأحياء ردة فعل مزدوجة: ترسخ في أذهان الناس الهروب من الأسماء المحلية بفعل سلوك جمهورية همزة الوصل التي احتقرت كل ما له صلة بهوية هذه البلاد. الوجه الآخر لردة الفعل هو تمرد على نهج همزة الوصل في الهروب من كل ما هو عربي حتى لو اقتضى الأمر اللجوء إلى الحروف اللاتينية.
نجد مثالا آخر لتحدي إطلاقات جمهورية همزة الوصل في إطلاقها وصم "الكبه" على موطنين ألجأهم الجفاف إلى عاصمة بلادهم ليعاملوا بصفتهم  "قمامة"! لم يحدث في التاريخ أن عبر عن حي سكني، بأنه قمامة. تسمى الأحياء الفقيرة على تخوم المدن الكبيرة أحياء الصفيح. لكن نخبة جمهورية همزة الوصل، إمعانا في احتقار أهل البلاد سمتهم قمامة. ودخل الاسم الوصمة في الأدب الشعبي: في الكبّ مدّ منكبّ… ووصم البدوي، الغالية العظمى من أهل البلاد، بالمتوحش: صوفاج. ودخلت الكلمة الفرنسية التداول الحساني ليشتق منها: مصوفج: من لا ينتمي، أو يحاول الانتماء إلى الثقافة الفرنسية.
لقد انتقم أهل البلاد من مصطلح الازدراء: الكبّ، بعد انقلاب العاشر من يوليو، حين استولوا على السلطة عنوة من جمهورية همزة الوصل، فأطلقوا على الأحياء الشعبية الكزرة. لم يعودوا كبّ وإنما أصبحوا كزرة، أي غصب من الدولة التي تحيل في أذهانهم إلى همزة الوصل التي احتقرتهم، فانتقموا منها رمزيا، في فعل ينسب إليهم (كزرتنَ) ليعطيهم الشعور بوجود فاعل، بعد أن كانوا مجرد قمامة…
صاحب المعالي..
من أسسوا هذه الدولة جنوا على الغالبية العظمى من سكانها في هويتهم، ولاز لنا ندفع الثمن شعورنا، ومشاعرنا نحو وطن لا نملك بديلا عنه.
صاحب المعالي..
أعطيك مثالا آخر على سوء علاقتنا بالمكان وتسمياتنا المحلية.. ستعلن نتائج الثانوية العامة بعد أيام، وتعرف أسماء الأوائل. لن تجد اسم تلميذ يرفق بأنه من نواكشوط، حتى لو كان مولودا فيها! سيعاد إلى مضارب عشيرته؛ من اترارزة، أو آدرار، أو لعصاب. لا أحد ينتمي إلى نواكشوط، عاصمة البلاد! حتى مواليدها ينسبون إلى مدن عربية عريقة؛ الرياض، البصرة، بغداد.
أو يسجلهم ذووهم على أنهم مواليد مقاطعة العشيرة (باستثناء الكنتيين). في جميع أنحاء العالم يفخر سكان 
العاصمة على غيرهم من سكان المدن الأخرى، إلا عاصمتنا لا يريد أحد الانتساب إليها لأنها تأسست مدينة غرب إفريقية لغتها فرنسية، وسواد سكانها إمالزن، وگميات…
عش طويلا.. وختاما بسعادة أبدية في "الرياض".

إسحاق الكنتي