حقل الكتابة بعدك موحش. ورجاحة العقل بعدك مكلومة.. والثقافة الناضجة من بعدك مُصابة، منكوبة، معتلّة.. فاليوم تبكيك كل ريشة معطاء، وتندبك كل دواة ومحبرة، وينوح على قبرك كل وقواق زاجل وكل حَمَام هادل.
على حين غرة، تُباغتنا برحيلك، وأنت من أنار لنا دروب السياسة بالتحاليل الرصينة، وأضاء لنا مسالك الفكر بالتنظير الوقور، ونصحنا، أيّما مرة، بالترَوّي قبل كل مبادرة، والاعتدال في المواقف، وتحري الموضوعية، وتحاشي الإخلال بسكينة المجتمع. إنها ذات الرؤية التي حدت بك إلى "الطلاق" مع رفاقك في "القلم". "طلاق" اعتبرناه زلزالا إعلاميا لا يطاق، لأنه قطع حبل الوصل الذي ما انفك يربطك بصديق عمرك الفقيد حبيب ولد محفوظ. كان الشاعر العبقري حبيب، موليير "المنكب البرزخي"، يرى أن رسالة الإعلام، في بلد متخلف، محكوم بمنظومة عسكرية وقبلية عنيدة، تكمن، إجباريا، في العمل على تقشير الجرح حتى يخرج القيح، ومن ثم يأتي الشفاء. بينما رأيت أنت أن حقيقتنا السوسيو-تاريخية المعقدة، وضعف لحمتنا الاجتماعية، تجعل البلاد لا تتحمل الصدمات القوية، وأن الإصلاح يجب أن يكون تدريجيا، قطرة-قطرة، لكي تصل السفينة بسلام. والحقيقة أن صراع هاتين الرؤيتين كان وبالا على الفريق لأنه سار به، شيئا فشيئا، نحو التنائي أو حتى التلاشي: كلٌّ إلى سبيله. ومن شظايا تصدعات "القلم"، وُلدت صحيفة "المنبر"، فـ"الحرية"، فـ"العلم"، فـ"الأمل"، إلى آخر قائمة "بنات القلم"... وفي "المنبر"، حققت أنت رؤيتك، ورسمت خطا تحريريا يعبر عن وجهة نظرك، ورأى فيك المتزمتون بيدقا للنظام، في حين أنك كنت، من خلال افتتاحياتك، تؤكد وتنشر وتطور رؤيتك الطافحة بالاعتدال، الغاصة بالاستقامة، المكتظة بفهم تعقيدات هذا البعبع الغريب.
كنت السند الكبير لمحرري الطبعة العربية. ففي حين كانت المبيعات لا تبرر وجودهم، بل تجعل منهم عالة على النسخة الفرنسية، وقفت أنت ضد الاستغناء عنهم، وكنت تردد بأن غياب طبعة عربية، في بلد مثل موريتانيا، لا معنى له، وأن على الجميع، فرانكوفونيين وعربوفونيين، أن يتعاونوا من أجل خلق صحافة عربية قادرة على البقاء والتأثير. صحيح أن سياسة التمييع التي انتهجها نظام ولد الطايع حالت دون تحقيق حلمك، إلا أن التاريخ سجل لك وقوفك المستمر إلى جانب دعم الإعلام المستعرب، والذب عن رواده، وتكوينهم، وتوجيه بوصلتهم نحو الدقة والموضوعية والحياد.
قلمك الفياض يأسر القلوب، وأسلوبك الشيق يفرض القارئ على السير مع أحرف يراعك حتى النهاية. كنتَ تكتب بفرنسية نظيفة، وبأسلوب أنيق، لتصل إلى نتيجة "قابلة للهضم".. كنا نقرأ لحبيب كي نستزيد من الأدب الرصين، ونقرأ لك أنت كي نستزيد من فنون الأساليب اللغوية الخفيفة والنقية.
كنت تتفوق على أقرانك المفرنسين بوادٍ ذي زرع من الأدب الحساني الرفيع. فمَنْ مِنّا لم تحدثه أو تناقشه أو تقيّمه أو تقوّمه في البكاء على الأطلال أو النسيب أو الغزل أو المديح!.. ومَنْ مِنا لم تسامره ببكائيات ولد مكيّ، أو مديحيات ولد هدار، أو غزليات ولد أحمد يوره، أو ملحميات ولد بوسيف!..
أخي عُمَير، إنك، بحق، مكتبة احترقت، وقلم تكسّر، وعقل تلاشى فجأة، وروح طاهرة حملت معها كل قيّم الإنسانية، ومكارم الأخلاق، وحسن المعاشرة.. فالله نسأل أن يرفعك إلى مصاف الصدّيقين، وأن يمنّ عليك بصَيّب هتون من الرحمات، وأن يبارك في خلفك، وأن يلهمهم الصبر والسلوان.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.