كانت تمشي ببطئ شديد ترسم أَثر حياءها بِعفة …
تمشي مُثقلة الكاهِل كأنما تجر خيبات السنين …تتقدم خطوة تلو الاخرى ولكن شيء ما وقع منها هناك حيث استودعته… شيء ..أظنه كل شيء …شيء لا يُعوَّضُ بِثَمن… وربما أغلى مما تملك…… كنت أسترق النظر خلسة وانا في عزلتي في بهو المطار … حيث دخلت كأنما عنقاء .. جوزاء مذهلة …أكاسيا وافرة الظل كل من عليها يراها… ورأيتها أنذاك … راقية … عفوية… يبدو انها اختارت ثوبها بدقة متناهية أو بعفوية صافية ..كان ثوبها أزرق بِزُرقة السماء الصافية … يحف الوشاح وجهها الصبوح ..وتتدلى خصلات شعرها الأسود الحالك على وجهها كأنما تفقد السيطرة عليها …
ظهرت فثارت انتباهي …وجه متوهج في اخر ساعات الليل وفي عزلتي … كلما نظرت إليها سرَّني وجودها وانتابني الفضول أكثر … ثلاثينية تلبس عفوية طفلة … سرق انتباهي ضجيج نداء المطار … غادرت طاولتي لأطمئن على توقيت رحلتي بما أني في بلد عربي كل شيء فيه قابل للتغير والتغيير …كل شيء يتأخر عن وقته ببساطة فنحن أبناء بلد ننام في السلام ونصبح في الحرب … ننام على أمل وطن لنستيقظ وقد ضاع الوطن… نبيت في سكون رهيب ونستيقظ في ثورة مجيدة… حيث كل شيء عشوائي … أدركت حين وقفت بالصالة أن باب "الرُّكاب" مغلق… طابت نفسي بِفضول يتربص بي منذ ان رأيت ذاك الوشاح …عدت مسرع الخطوات إلى مكاني … المكان نفسه الذي يأخذ موقعا استراتيجيا إليها… عدت ولكني لم أجدها … يا إلهي كيف سأسقي فضولي عنها ؟؟؟
إلى أي صالة ذهبت ؟ واي رحلة كانت تنتظر ؟؟؟ اخذتني اسئلة كثيرة يقودها الفضول … لعنت في نفسي كل تلك النداءات وكل شركات الطيران وكل شيء بائس في هذا الوطن المنهوب…
لعنت كل من ادى الى بؤس هذه الوجوه الشاحبة جميعها … كل الشتائم التي في صدري حضرتني تلك اللحظة وبعثتها في ظرف مفخخ الى لصوص الوطن جميعا … اشتعل بركان خامد في قلبي منذ ولادتي … فتحت الفوهة التي كلما احرقتني حممها اطفئها بالتعاويذ والايمان والحلم … رحت العن والعن والعن كل من كان سببا في شقاء ذلك "الكهل الاسمر" من سرق لقمة عيشه ليجعل منه "ماكينة نقل بضائع " وقد بلغ من العمر عتيا… ومن حرم ذاك الشاب البيظاني الوسيم الذي اخفى الشقاء والبؤس ملامحه حياته الكريمة… "مريم الكورية" نعم السمراء الطيبة جارتي الحديثة من حرمها قوت ابنائها؟؟؟ الم توجد القوانين الوضعية لتحسين وضعية الانسان وخطت الاف المواثيق الدولية من اجل كرامته ؟؟؟ اين كل ذلك كيف تشقى الاف النساء هنا في كل بقعة من هذه الارض المباركة وتسعد في اخرى ؟
اخذتني لعنة كل شيء يحوم حولي بِأسئلة عصية الجواب وخففت وطأة الصدمة … وفي لحظة ما اخذتني عيناي إلى باب يفتح فإذا بها صاحبة الوشاح تتقدم إلى الصالة إلى عين المكان … هاهي صاحبة الوشاح قادمة من خلف الغيوم … اطمأنَّ قلبي كأنما أم تنظر إلى رضيعها … هل يعقل أن يبلغ بنا الفضول حد التعلق بالاخرين ؟؟؟ وهل يأتي بعضهم بغتة ليشعل فينا فتيل الفوضى …شعلة الفضول …. شيء ما مبهم يطلق صافرات انذاره داخلنا…
أخذت على نفسي ألف عهد وعهد إن رأيتها مرة أخرى سأتقدم نحوها واكسر هدوءها لأكتشف غرابتها وراء ستار فضولي … إنتظرت حتى عادت للمقعد نفسه رغم وجود آخرين شاغرين أقرب لها منه … ولكنها ذهبت اليه هو نفسه دون غيره … بما أني مولع بدراسة السلوك والتفاصيل الصغيرة من الآخرين … شعرت حينها أنها من اللواتي …يبقين على العهد غالبا … كيف لامرأة تُخلص لكرسي دون غيره أن تخون رجلا… أن امرأة تضع عطرا دون غيره واحمر شفاه واحد ووشاحا دون اخر … حتما ستخلص لرجل واحد دون اخرين وان اصطفوا حولها وكأنما المسيح…
حملت هاتفي بهدوء تدفعه قوة أجهلها وربما تجهلها الابحديات ويعلمها القدر وحده … حركت ساعة ابل الذكية في معصمي.. رتبت عنق قميصي … حملت سماعتي عن الطاولة وورقة الاركاب … كمسافر لا ينوي العودة ابدا … حملت كل شيء من تلك الطاولة التي منحتني الكثير …حملت كل شيء بغتة كما يحمل المهاجرون اكثر ما استطاعوا من رائحة الوطن … وطنا ولدوا وهم يحملون حلم فراقه الى اللاعودة … وطن قتل فيهم كل شيء منذ الولادة وأحيا فيهم رغبة الهجرة … حملت نفسي وقادتني سرابيل القدر إليها … ألقيت تحية السلام بلهجة حسانية أصيلة "اشحالك ياك الا الخير " ثم اجابتني بحسانية تحمل وجه اختلاف وإن كان بسيطا "ماشاءالله " اجابتني على عجالى دون تردد كأنما توجهني الى الرحيل… ولكني تمسكت اكثر وشدتني الزاوية التي كنت اطالعها من الركن الاخر … طلبتها " حكلا نكد نكعد هون ظاهرلي انك طاولتك متواجهَ مع صالة المسافرين… انا المتأخر دوما … ابتسمت في حياء لا يشابه اعجازه الا كلام الله في التوراة … "والله اتفضل المكان للناس كامله وانا ماه ملكي" واخذت نفسها بسرعة وغاصت في عوالم هاتفها وتركتني لبركاني… تتراقص الكلمات والافكار داخلي هل اكسر زجاج انتباهها بسؤال …؟ ام اغوص في صمتي … ؟
وقبل ان اخذ زمام الامور اخذني القدر اليها مرة اخرى …اختي انت من اهل الدشرة…؟ لتجيبني بأسلوب مقتبس كمن يدفع اجر الكلمات "تقريبا" … ههه… لم تترك لي جرأة سؤال اخر … حاولت كسر انشغالها بالتعبير عن حرارة الطقس … بالرغم من اننا في فصل الشتاء الا ان الجو حار…
وتجيب هي كأنما رسول يبلغ فقط … لا تضيف اي كلمة ولا ولا حرفا يفيدني… تجنبت اثارة فوضى حواسي وهدأت … اخذت اقلب صفحات الاعلام الصفراء المنتشرة في هذا الفضاء … فنحن ابناء اللعنة الاولى كل شيء حولنا مشوه ونتن كأنما مسخ… كل شيء هنا محرف الف مرة ومرة … فنحن نشبه اشياءنا دوما … فاذا عمر الياسمين في ارض تشبه أهلها … وعمرت الآكاسيا في بقاع اخرى وكست الثلوج مدنا من هذه الأرض تشبه أهلها … هنا يعمر الوهم والأسطورة والخضوع للظلم والخنوع لقوانين وأعراف خطتها ظروف عيش قاحلة فسخنا نبلها وعمق قيمها وتمسكنا بقشورها وجفاءها…نحن الشعب الوحيد في العالم الذي لا يميز بين الحق والواجب …نحن المتصدرون في العالم لنبذ اي حقيقة علمية لم يورثها لنا الآباء ولم ترويها الجدات في مجالس الحناء …
من فرط وهننا وفظاعة حالنا …في كل مدن العالم يشرب المريض الدواء فيشفى الا في هذه الارض المباركة يشرب المعافى حبة اسبرين فيمرض … ويأخذ المريض حقنة مهدئ فيموت … كل شيء مضروب … الاخبار والانباء هنا مغلفة بمساحيق تجميل منتهية الصلاحية مختومة بعبارة مقززة صنع في الصين …
كل شيء يصنع في الصين اليوم من ابهى الاختراعات البشرية الى أدناها ولكننا لا نستورد إلا القبيح والأقبح من كل شيء …
يذهب بي محرك التطبيق من خبر لاخر … و أسترق انا النظر اليها كلما سنحت الفرصة … هذه المرة رفعت عيني صوبها فاذا بدمعة تسابق الضوء في سقوطها… مسحت أثرها على عجالى كما يمحو السفاح معالم جريمته
ارتفعت رغبة فضولي ماذا يبكيها… ؟ اتراها هي الاخرى تدرك حجم شقائنا نحن ابناء هذه البلدان المنهوبة والمسلوبة… ؟؟؟ ربما تنظر لمصير الأجيال القادمة المفجع ؟ ربما هي تدرك ان خطرا محدقا يتربص بنا ونحن لاهون؟
تحرك شفتيها المطبقة كمن يكرر تعويذة في صدره دون صوت ولا حركة…كأنما تتلو آيات من الذكر الحكيم ؟ تكرر وصية احد غواليها؟؟؟ ام تراها غارقة في قصة حب حاكها القدر بحجم نبلها وأهداها يزيد عصره بغتة… ثم اختارت أن تبقى وفية للقدر وتهديه صمتها….
لمينة الخطاط
كانت تمشي ببطئ شديد ترسم أَثر حياءها بِعفة …
