العلمُ شيءٌ، والحكمةُ شيءٌ آخر!

العلمُ شيءٌ، والحكمةُ شيءٌ آخر!

روى الحافظُ ابنُ كثيرٍ في الجزءِ العاشرِ من البدايةَ والنهايةِ قالَ:
دخلَ رجلٌ على المهديِّ الخليفة العباسيِّ ومعه نعلٌ يحملها بيده، وقال له: هذه نعلُ رسول الله ﷺ قد أهديتها لك!
فقامَ المهديُّ عن كرسيِّ الخلافة، ونزلَ حيث الرجل، وأخذ منه النَّعلَ وقبّلها، وأمرَ له بعشرةِ آلافِ درهم!
ولمّا انصرفَ الرجلُ، قال المهديُّ لمن كان في مجلسه: واللهِ إني لأعلمُ أنَّ رسول الله ﷺ لم يرَ هذه النعل، فضلًا عن أن يكون لبسها، ولكني لو رددته لذهبَ يقولُ للناس أهديتُ الخليفةَ نعل رسول الله فلم يقبلها، فتصدقه الناسُ لأنَّ العامة تميلُ إلى أمثالها، ومن شأنهم نصر الضعيف على القوي، وإن كان ظالمًا، فاشترينا لسانه بعشرة آلاف درهم، ورأينا هذا أرجح وأصلح!

بدايةً.. العلمُ شيءٌ والحكمةُ شيءٌ آخر، فقد يكون الإنسان متعلمًا، وليس له من الحكمة شيء، وما منكم من أحد إلا ويعرفُ شخصًا متعلمًا لم تضف الشهادة إلى عقليته وتصرفاته وعلاقاته شيئًا!
وقد يكون الإنسان حكيمًا وليس له من العلم شيء، وما منكم من أحد إلا ويعرف شخصًا بالكاد يفكُّ الحرف، فإذا هو بارع في إنشاء العلاقات وتكوين الصداقات واحتواء الناس، يألف ويُؤلف، وقد يجمع الإنسان بين العلم والحكمة، والخير في الناس لا ينقطع!

الشهادة للوظيفة والحكمة للحياة!
لا أنكر أننا من المفترض ونحن في طريق تحصيل الشهادات أن نكون تحصلنا على مادة أولية تتيحُ لنا التعامل مع الحياة، ولكن الذي من المفترض أن يحصل لا يحصل دائمًا!

العلمُ معادلاتٌ ثابتة، والحياةُ مواقف متغيرة تقتضي أن يكون الإنسان مرنًا، في العلم واحد زائد واحد يساوي إثنين، في الحياة من الحكمة أحيانًا أن يكون المجموع يساوي ثلاثة، فلا بدّ من كسر المعادلة وليّها وثنيها والالتفاف عليها لتستمر الحياة!

في الفيزياء لكل فعل رد فعل مساوٍ له في الشدة معاكس له في الاتجاه، هكذا يقول نيوتن في قانونه الثالث، أما الحياة فلها قانون آخر يقول: من الحكمة ألا يكون لكل فعل ردّ فعل، فأحيانًا لا توجد إجابة أبلغ من الصمت، ولا تصرف أعقل من أن تتصرف كأنك لم ترَ ولم تسمع!

العلم يقول إن الريح تتحكم في اتجاه السفن، ولكن الحكمة تقول: اضبط أشرعتك!
ليس على كل أحد أن يجرك حيث أراد، لستَ مجبرًا أن تشارك في كل نزال تُدعى إليه، ولا كل حوار يُفتح لك بابه! لا تخض معارك تافهة، وإن وثقتَ بتحقيق النصر، ثمة نصر تخسر فيه نفسك، وهذه بحد ذاتها خسارة لا يرممها النصر الذي حققته، مهما بدا ساطعًا، وثمة انسحابات لها طعم الفتوحات، فعندما تربح نفسك تكون قد سطّرت نصرًا، بغض النظر عما بدا لحظة ذاك هزيمة سطحية مؤقتة!
قمة الذكاء أحيانًا أن تخفي ذكاءك، وقمة الفهم أحيانًا أن تتظاهر بأنك لم تفهم!

من أمثال جدتي الجميلة: «اللي تعرف ديته اقتله»، بمعنى أعطهم ما يريدون بشرط ألا تخسر نفسك، وليس هذا نفاقًا أو تلونًا، ففي الحديث «نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم»، وعلى قدر عقولهم يدخل فيها نفسياتهم كذلك، ويا صبر الأرض على بعض الناس!

أدهم شرقاوي.

*دِيوَانُ الْعَرب ﴿18﴾*