قِطُّ السِّتْ.
..........ا
كلب السِّت، قصيدة من لطائف مشاكسات الشاعر أحمد فؤاد نجم للفنانة أم كلثوم، وهي معروفة لمن يهتم بالتراث الفني المصري؛
قط السِّت، من تراث عملي الوظيفي شخصيًّا...
"ألين"، خبيرة فرنسية، تلبس على مقاسها نُبلا وراثيا، تربَّت فيه، وحملته تاريخا من الرُّتب الاجتماعية المتسلسلة، وأجادت في الإبقاء عليه طازجا،.. سيدة متعودة على الرغبة في الفضيلة بجدارة أخلاقية!
اختصاص "ألين"، الأمر بالمعروف في فن العلاقات العامة، والتربية بمفهومها السَّامي، والتنقيب في علم السلوك.. شخصيتها تستوطن القلب بسرعة وتترك عليه توقيعًا رقيقًا،.. فهي تجعل مُعاشرها يتجاوز عثرات الخلل في العلاقات بزينة القول، لكن أيضا برزانة الفهم.
ربطتني زمالة عمل وعلاقة صداقة مع "ألين" ، متغاضية عن فارق السن والتجربة، .. لديَّ ميل غير مُنْصِف لاحترامٍ مجانيٍّ للنّبلاء، وهو ميل يسْكن شعوري مذ شَعُرْتُ،... والسيدة نبلها يستحق الحفاظ على نفسه، فهو يقود سلوكا بمزاج متجانس، وطاقة أخلاقية متجذرة في روحها.
لكن طبيعة عملي أيضا تجعلني أهتم ببعض أمورها الخاصة أحيانا، يعاضدني أحد زملائي، ومعاون في شكل سائق مُهرِّج، يبين من نوادر الطباع الغلاظ، ظهيره أطلال رتبة اجتماعية يدَّعيها!..
وصلتنا السيدة "ألين" مع رفيقٍ لها، قطٌّ أسود، ضخم الجثة بحجم كلب شواوا، نبيل الاسم: Berlioz ، وافر الفرو، ذهبي العينين في اخضرار، يملك أوراقا ثبوتية ودفتر تطعيمات، ومعدات للتنقل في الطائرة،.. ويعيش معها حياة دلال مُترفة، فهو وحيدها، وأنسيها في آن.
بعد عامين من تدقيق معرفتها لنا، أسرَّت إليَّ باستغرابها من كَمِّ النّبلاء هنا، ومن بعدهم عن سلوك النبل، وتستنطقني عن التصنيفات الاجتماعية، فأجيب أن الناس مؤتمنة على أنسابها!...
هاتفتني ذات صباح بأن " برليوز" أصيب برعاف حاد، قلتُ لها رجْمًا بالتَّخمين: ربما ضربة حرارة!،.. لم تقتنع، لكنها تمنَّت لو كان الأمر فعلا كذلك، فالقط سبق أن عاش معها في بلد استوائي ولم يتأثر..
طلبتُ لها خدمة طبيب بيطري، فاكتشف أن القط البالغ من العمر 15 سنة، وصل آخر فصل من عمره الافتراضي، وعليه أن يرحل!،.. وبما أن الرَّحيل ترافقه لزاما مسوغاته، أصيب القط بسرطان في الرأس فنزف بحدة،.. أدركتُ أن وقع الصدمة سيكون شديدا عليها .. فالقط أنيسها الأوحد لأزْيَد من عقد، حتى أنها أخْصَته ليتفرغ لحبها.
شرح لها البيطري حالة الرَّفيق،.. صمتت، ثم ارتمت على صدري تغالب غصَّة مُعتَقَلة في هيبة الوقار،.. احتضنتها محاولة إخراس أجراس حزنها، كنتُ صامتة بدوري أعابثُ تقمّص حزن كاذب منِّي، قبالة ألَم منها غير منطوق في صدق مُوجع،.. فتناوبني شعور بين الوخز والخجل الدفين الذي يُمايز حسن ظنها بي عن سوء فعل مشاعري بها.
ناقشتِ البيطري، وقرَّرَتْ بملء صبرها اخضاع القط للموت الرّحيم،.. فلم يعد من بقية رجاء بشفاء،.. السيدة متعوّدة على الجنازات المهيبة، وتريد لقطها توديعًا يليق بمستوى أسلافه من قطط النبلاء.. وهيَ على يقين بأنَّ المنطق المحلي سيضُنُّ على "الفقيد" بضريح يحمل نقشا باسمه أو وصفا بفضائله...
استرحَمَتْنا أن نتولَّى أمره كما ترغب،.. حُقنة قاتلة من البيطري، وقبر على الشاطئ،.. قهقه السائق في ضَخٍّ صوتيٍّ مُتواصل!،... نظرتْ اتجاهه مطولا في صمتٍ، فمع الوعي نكتفي بالتفرج بعدم اكتراث يُعطِّل الرغبة في الرَّد.
هذه السيدة المتعّودة على حلقة من التواصل الانساني الراقي والمهذب، وجدت نفسها أمام قهقهة مُستكثرة على "حزنها" لُطف الخاتمة و"اتمعليم" الحضرة،... يجهل السائق أن قطرات دمٍ نزلت من أنف قطها، قَلَبَت حياتها تمزُّقًا.. وما من مُخفِّف عنها في الدائرة القريبة سوانا، وأنَّ صدى ضحكه الأبله يتجوَّل في قلبها كشظية زجاج.
كان السائق قد عَلِم منها ذات يوم أنها "منت خيمة اكبيرة من انصارة"،.. فأسرج على موجة النبل تلكَ، "جرًّا للدَّم" وعوَّدها من ساعتها على احتساء كأس ثرثرة من أوهام تاريخنا الشعبي في كل مشوار، مُثبتا لها بدوره صفاء عرقه، ومُشْبعا بغباء فضولها البحثي بالتِّيه في فصائل الدَّم الاجتماية لكل العاملين في محيطها،.. كان يغريه الحديث عنها، وعوَّدني في كل مهمة تجمعنا على التَّذمر من حاضرنا الذي أزرى "بالنبيل" حين انقَلَبَ سُلَّم التصنيف ليحجز له -دون انصاف- دورا أصغر من "شجرته" .. فالرجل مسجون في حنين مؤلم لملامح حِقَبٍ تخطَّفها الضَّياع وغسل يديه من دَمِها، وهو بالذات لا يمتُّ لها بصلة في كلّه..
أولَمْ يُزْر التاريخ بصاحبتنا حين ثار العامَّة على أسلافها، لتضطر بعد حين من الدَّهر إلى تلقين فن المدنيَّة لأفقر أتباع إمبراطورتيهم بمقابل معلوم... لنا نحن، يا لتُعسِها!
كنتُ أحيانا أتلهَّى بالمقارنة بين نُبلهما،.. بين توهُّمُ النبل منه، وتمثُّل النُّبل منها، فتميل المقارنة لصالحها،.. فهي قطعا من نبلاء حفظ المعايير، عكسه،..
يقول نابليون:« إنَّ للنَّبَالة التزامات.. » .. هناك مُقتضيات ذاتية تثني النّبلاء عن بعض السّقوط، وعن بعض اضمحلال الضمير.. لتدعم لديهم زَعم التّميز الاجتماعي، وتُقنع البسطاء بدورهم الاحتكاري في توريث الرُّتب، فالنبلاء حرَّاس لهيبة الأخلاق ومستودع لموروث القيم،..
كان مستوى تأثر السيدة لا يسمح لها بحضور La levée du corps .. وفي الطريق الى الشاطئ مع الطبيب البيطري، استأذن زميلي في العمل في قطع المشوار، بحجة أنه غير مُلمٍّ بأحكام تشييع جنائز "لمشوشه"، وبالتالي سينسحب من حضور إجراءات دفنه، فأخذتُ باجتهاده تقليدًا، وعدتُ وإياه إلى المكاتب،.. كلَّمتُ السائق وقد صحب البيطري، فأخبرني عن التفاصيل بحماس :« اكْتلنا النُّوص وازركَنا جيفْتُ أورَ ازْبَارَه»،.. لم تكن تلك الميتة المثالية التي رسمتْ له رفيقته، والتي دفعتْ رسومها نقدا للبيطري.
"ألين"، نسيج دقيق، رقيق، من خيوط التاريخ المخملي، لم تتقبَّل يومًا نُبل السائق المتعجرف، وزادت تعليقاته غير الودية تجاه القط من نفورها منه، ومع أنها نادرا ما تتناول محيط العمل في حضوري، همست لي نكاية به: « السائق فلان، ألم تضاجع أمه بالصدفة نذلا غجريا، وهي نصف غائبة عن الوعي؟..، النبل كما أعرفه بريء من هذا الرجل!» .. طبعا هذه "اتلحليحه" منها، تسمى بلغة عفة اللسان: "القَذف"، وإن وَعظتُها بترجمة "القذف" حرفيا إلى اللغة الفرنسية ستُعطي معنًى "مايْجمَّعْ".. أفْصحتُ عن ضحكة مُستحقَّة وصمتُّ،.. أُدركُ أنَّ النبل في منطقها يدعو لا إراديا للشموخ والتسامي والتهذيب.
وعلى حافة طاولة في مقهى باريسي، في آخر لقاء بيننا، حَملتْ إليَّ "ألين" سنواتها السَّبعين، في جو شتوي وطاس من رغوة الشوكولا،.. أمضيتُ ساعتين أتجول من جديد في عقل عظيم ومُريح، حننتُ إليه،.. إلى ابتسامة محسوبة الأبعاد، إلى كلمات منتقاة من رفيع الكلام،.. قَصَّة شعر أنيقة، حركات رشيقة، وقِصَّة حياة تراكمت فيها طبقات أخلاقية فوق بعضها،.. شعرتُ أنَّ الطبقات تخصُّنا،.. نحن أحقّ بها.
تحياتي.
الدهماء