ألقابٌ بتشجيع من الوَهم.
........ا
أتلهَّى كثيرا بتدوير أحداث "إقامتي" في "شؤون المرأة"، أعيد زمانها، فأتتبَّع خطوي في شيء يُشبه المسرح الشعبي،.. ومنها أنِّي أمضيتُ فترة أتنقَّل من قِسم لمصلحة لإدارة، وكلّما دخلتُ في صلة حميمة مع عمل ما وصَفَفتُ فوقه أحلامًا غير مُكْتملة الملامح، أجدني خارج حظوة التعيينات، فيتم "تِرْوامِي" من جديد على أيِّ شيء مُترهِّل في الوزارة ككل العاطلين الصِّغار،.. تشرَّدتُ بداية بين أعمال غير مصنَّفة في الهيكلة الإدارية، ستكون لي مقامًا محمودا تشتهيه نفسي الفضولية، ومن هذه "الأعمال" الرَّبط في الحفلات، وتنظيم المعارض والإنعاش الإذاعي والتلفزي، وكتابة محاضر لاجتماعات لم احضرها، وو الخ.
ظللتُ أتعايش مع خدمة الرَّبط في أمان الله، إلَى أن سمعتُ ذاتَ استهزاءٍ مصوِّرا من التلفزة، يناديني في تجرّد من الذوق "اشويبت الربط"، ولم يُجانبه الحق، فقد روَّضت نفسي طويلا على الرَّبط، حتى صُرت أؤديه بإتقان الجُمل اللحنية، لأني استعنتُ به للتفوق على رهبتي من التعبير أمام الجمهور، فالتحديق في المئات المُبحلقة يوقظ حفيف الوجل لخجولة مثلي،.. لكن المصور بسخريته نَبَّه حَميَّتي الفطرية لكبريائي، فصمَّمت على الإضراب عن الربط،.. فلا أريد أن أُعرَّفَ به!..
وأمَّا تجربة الإذاعة فتستحق أنْ تُعاش، فبعد انْ شاركتُ في حلقتين أو ثلاثة، أظهرتُ عُلُوّ كعبٍ في التهريج المهذَّب، استحليتُ الميكرو، أحشدُ عليه بنات أفكاري من كل فنٍّ، "ما انْرِدْ كتبه"، وكنتُ مستعدة للتسجيل صباحا ومساء بما أعرف وبما لا أعرف: التوعية، التغذية، الزواج، الطلاق والتدبير...إلخ،.. وفي العموم أهرب إلى كلام فضفاض متفلسف يغلب عليه التَّذاكي والنُّصح،..
كنتُ مزهوة بالتحليق في وَهْمٍ قَوامه أنَّ أهلي ومَعارفي سيصلهم ذِكْر اسمي في الإذاعة،.. وكَفَى! ..
وينتابني شعور بالرغبة في مُعانقة نفسي كلما تعرَّضتُ لسحر هذه الجملة:«ومَعَنَا في حلقة هذا المساء الخبيرة الاجتماعية الدهماء!»، هكذا دون جهد صُرت خبيرة!.. مع أنِّي لا أملك وقتها خبرة في شيء، لا بمعيار المعرفة ولا بتراكم التجربة،.. لكن الدَّارج في الإذاعة أنَّ أيّ مُشارِكة من "شؤون المرأة" يَجوز في حقِّها منح لقب "خبيرة اجتماعية" قياسا على اهتمامات قطاعها، لا على تخصصها أو مستواها،.. والطريف أنِّي وجدتُني في بعض الملتقيات أعرِّف على نفسي "بخبيرة اجتماعية!"،.. غَدت الكذبة مسلية في غياب الشهود.
كانت مهمتنا في الإعلام أن نُلحم المرأة العادية بمستوى من الوعي، فحصل تبادل منافع بين الوزارة وهيئات الإعلام فمنَّا المنعشات ومنهم البث.. لكن نقطة ضعفنا المُحاكاة، إذْ نستنسخ تجارب عربية وافريقية ومعلَّبات أمميَّة، صُمِّمت لمجتمعات أخرى، فوقعا في الْتِكاكِ جرِّ عربة التوعية في اتجاهات متنافرة، ومع الوقت صارت المسطرة رتيبة مجترة التكرار، واستُنزِفت فيه حناجرنا.
استيقظتُ ذات صباح على والدتي وهي بباب غرفتي تسألني بشك بريء: «انتِ هون؟»، أجبتها ضاحكة: «امنين لاهي انعود ذ الوقت»، فردت:«بيَّ إلي أراعيك ترطلي افْ لذاعة!»، وأشاحت متذمرة: «أحْ، دنْگه أوپيلْ»، بمعنى: «أح، أرانك كثرتي».. وحُقَّ لها على اصْباحٍ،.. كانت حلقة معادة في الإذاعة الريفية، عن أضرار الزواج المبكر والتسمين القسري والخفاض.. ولم تكن أرقّ المواضيع لاستقبال الفَلَق،.. ثم دارت الأيام ووصلتُ لمرحلة التَّسمم والتَّبرم من هذه البرامج، فكَرِهتها، وكرهتُ معها الإنعاش عموما، وصمَّمتُ على الإضراب عنه هو الآخر!
صرتُ أعرف أغلب أهل الإذاعة وأهل التلفزة لشدة "اتمطليس امعاهم"، وأعرف خريطة أمزجتهم: المَرِح، الجامِد، المقتدر، الضعيف الاستفزازي،.. وكانت أمتع حلقاتي مع "مريم منت لحبيب"، انسانة عفوية مرحة، وَرَفْعُ الكُلفة بيننا زاد الألفة، .. كنا نقضيها معها ضحكا وتنكيتا بين فواصل البث، ووحدها كانت "تَجود" علينا برحيق مختوم من الشاي، نستقوي به على هذيانٍ قد يَجرُّهُ ذيل الليل إلى الساعة صفر!.. الإذاعة كانْ فارغْ شِغلها.
قياسا على ما تقدَّم، استسهل الإعلام التَّصديق على القاب وهمية خَلعها ضيوفه على انفسهم فسايرهم بها، فغدت تُتداول في سوق الخِداع المهني كتخصصات معترف بها رسميا وعرفيا، ومنها: الخبير، الفقيه، الأديب، المحلل المتخصص في كذا، الاستشاري، الناشط الجمعوي، والمناضل الحقوقي .. وبعضها وظِّف توظيفا سيئا!.
أذكر ليلة في حلقة رمضانية في الإذاعة، كنا ثلاثة في عُمر شبابي متماثل، "فقيه" خريج معهد إسلامي و"طبيب" في الطب البديل (أعشاب) و"خبيرة" اجتماعية (أنا).. قدَّمتنا مديرة الحوار مريم بألقابنا هذه التي أمْلينا عليها، كنتُ أوّل الواصلين إلى الاستيديو، تلاني "الفقيه" الذي سبق أن سجَّلتُ معه حلقة في بداية نفس الشهر، وكان حينها وديعا ومرتبكا،.. لكنه اختلف هذه المرة في لبسه وحركاته،.. وطلب مني تغيير موضع جلوسي قبالته، وبما أن التمرد وَفيّ لِي كظلي، واجهتُ اسقاطاته الذهنية الجديدة بالتجاهل، لأني على يقين بأن القضية لا علاقة لها بوجودي أمامه من عدمه، بل القضية في أنَّ الشاب اندمج في تمثيل رديء لدور الفقيه النَّمطي، بعد أن البسته الإذاعة اللقب وَ(جَدْ اعليه)، فأراد أنْ يَتضخَّم بحزمة مُصادمات آمرة،... وأسررت إلى نفسي:« ربما يناوبني بين راهبة في أول الشهر، وغانية في آخره!»،.. ثم قذفت إلى مريم بأشياء لا تصلح للنشر هنا،.. وضحكنا كثيرًا.. وأضحكنا "الفقيه"!
ما فات على المسكين، أننا مجرد "اثْلتْ كِذْباتْ مِتْلاَزَّاتْ"، حضرنا هناك لنَتنقَّل ساعتين بين ضفَّتي زَعْمٍ سَنتَعايَشه على طاولة الاستديو بالقاب مزيَّفة،.. فلا "الفقيه" فقيه في الواقع، ولا "الطبيب" طبيب في الأصل، ولا أنا خبيرة في شيء يذكر، لسنا أكثر من حَشوة ناطقة لسد فراغاتٍ في مسطرة الإذاعة برسم قطاعاتنا..
ولم يتعطل مصنع الألقاب عن الانتاج بعدُ...
تحياتي.
