"النخب" أمُّ الفساد وأبوه.. والمجتمع شريكه
-------------------------------------------------
كتب الدكتور محمد ولد الراظي:
انقلب العسكر على المرحوم المختار ولد داداه، فغصت شوارع نواكشوط وسائر المدن الكبرى بالمسيرات تنديداً بحكمه وتأييداً للمنقلبين عليه.
كان المختار عف اليد، وكان عف اللسان، وكان رجل دولة كبير، وما كان أحد المنقلبين عليه يعرف له أصولا منقولة ولا أخرى غير منقولة ولا سوء حكامة يبرر الإطاحة به.. لكن الناس خرجوا مستبشرين بقادمين لا يعلمون عنهم شيئاً. وتنكروا لرجل خبروه لعقدين، يختلفون حول مشروعه السياسي ويتفقون جميعهم أن لا أحدا منهم يذكر له دنيّة ولا يعلم عنه منقصة.. فما الذي دعاهم للخروج فرحين بقادة العهد الجديد؟ قد يكون لطمع في مال عام عزّ عليهم نيله إبان الحكم السابق، وقد يكون الدافع أن نزيل القصر مظنة للبطش فيخافونه. وفي الحالتين كان القوم يطمعون في مجهول ويخافون من مجهول، ولا مَوثق لهم ولا وفاء. والطمع والخوف والتنكر للمواثيق والعهود، ما كانت يوماً من قيم الفضيلة وما كانت سمة من سمات النبل! فقط أولئك الذين شكلوا طاقم حكمه وسدنة مشروعه السياسي ظلوا له أوفياء، فتواروا بعيداً عن المشهد، لا يشهدون الزور ولا يتبنون الشيء ونقيضه ولا يتسببون في متاعب لبلدهم في رحلة التيه التي بدأها لتوه، فكانوا الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، رحم الله من قضى منهم وأطال في أعمار القلة الباقية.
أين إذاً قيم هذا الشعب التي تصك بها المسامعَ مروياتٌ منثورةٌ وموزونةٌ وسردياتُ فضيلة وكرم وإباء تغص بها الموروثات هنا وهناك؟ وأين فتوة شعب لا يسكت عن منكر ولا يغفل عن معروف ولا تأخذه لومة لائم في قول الحق ولا تأخذه في فعله؟ وأين صدق المؤمن الذي يظل يصدق ويصدق حتى يكتب عند الله صديقاً؟ وأين الوفاء في الموقف والوفاء للقناعة والمبدأ؟ وأين الضمير؟ وهل كان هناك ضمير أصلا؟ وأين الإيثار وحب الخير للناس والعطف على الفقراء والمساكين؟ أم أنها مجرد صفات تراضَى الناس بها بعضهم لبعض فاننتشرت وعمت فأصبحت لكثرة تداولها كأنها حقيقة صفة جامعة مميزة للمجتمع، وحين تكون لحظة الفرقان بين العض عليها لذاتها والركض وراء المصالح المادية تكون الغلبة للمصلحة ويكون المجتمع حاضناً للفعل المنكر والقول المنكر والموقف المنكر، لأنه يدر دخلا، فتصبح كل أخلاقنا وكل قيم مجتمعنا الفاضل مجرد سراب بقيعة!
لقد بدأت سجايا شعبنا غير الحميدة تتكشف منذ العاشر يوليو، ولا يدري أحد هل كان العاشر يوليو هو السبب أم أنه فقط استفز ما كان كامناً، وواقع الحال أن كل تغيير لرأس السلطة يعلن رحلة تيه جديدة تتهاوى فيها الرجولة وتتوارى المروءة ولا يعود فيها للصدق مكان.
استمر هذا الانكسار الكبير، والذي يكاد يعم، حتى جاؤوا ب"ديمقراطية لابول"، فانفلت السوء من عقاله، وأصبح الكذب فضيلة والسرقة بطولة والغش رجولة، يتباهى القوم أنهم تحايلوا فكسبوا وأنهم كذبوا ففازوا، فقيمة المرء في مجتمعه تقاس حصراً بما خزن من مال حرام، والمال الحرام له منشأ عام يتسابق إليه الموظفون والساسة وأصحاب الرأي والمشورة والتجار المقربون، وله أيضا منشأ خاص هو المال الموبوء بالدواء المغشوش والبضاعة المغشوشة والإعلانات المغشوشة.. فكل طريق مدر لدخل يصبح عندنا قِبلة يؤمها الجميع. والدين أيضاً أصبح به غش كبير في مظاهرنا وجواهر أفعالنا، فأصبح الفعل يحل حين يكون به أقل نفع، ويجب حين يكون نفع كبير. لم يعد الفعل يكيف لذاته وإنما لنتائجه. فهل بعد هذا كله ستشفع لنا ندب سوداء طبعناها على الجباه لنوهم الناسَ أنها من أثر السجود، أم نظن أننا قادرين أن نخادع الله؟ ما كنا علمنا بهذه الندب ولا رأيناها أيام كان الإيمان عقداً بين المرء وربه ولم تكن به تجارة دنيا.
لماذا يكون رجل يحترم نفسه ويدعي قيمة ويرى له ذكراً بين الناس تارة هنا وتارة هناك، ويوماً يميناً ويوماً يساراً ومع كل قادم وضد كل مغادر، لا يسلم المغادر من لسانه ولا يبخل لسانه تمجيداً لأي قادم؟ ألأن الناس يقبلونه ببهلوانية تنقلاته المربحة؟ أمن المعقول أن يكون هذا الرهط من الناس أساساً لبناء الدول؟ أمن المعقول أن يكون هؤلاء محل ثقة من أي نوع كانت؟ وما الذي يتسابقون نحوه؟ حظوة غير مستحقة أم مال حرام؟ وهل تستقيم الدول إلا بالكفاءات وبالاعتماد عليها؟ يقال إن المرء يَسِم وظيفتَه بوسمه، فإن كان كفؤا نزيهاً يدرك ما عليه ويؤمن أنه يخدم أمةً، ستأخذ الوظيفة قيمة مضافة من قيمة من يشغلها؛ فتكبر عند الناس ويحترمونها وشاغلَها وستخطو الدولة خطوات للأمام، أما إن جاء الموظف جاء لأنه ابن فلان وأسندت له الوظيفة لأنه ابن العشيرة البار الجامع لكلمتها والضامن لاستفادتها من ريع وظيفته، فستكون الخدمة لصالح الأسرة والعشيرة، تنمو بها وتقوى وتهون الدولة وتخسر.. وفي النهاية يخسر الجميع.
لا يمكن للإنسان أن يكون فاسداً و مفسداً ويستمر في فساده إلا إذا كان المجتمع حاضناً للفساد والمفسدين وحامياً لهم، ومجتمعنا حاضنة ومرعى لهؤلاء، ونصيرهم وحاميهم حين ينهبون، فهم تيجانه وفخره، ولو لم يكن لهم كذلك لما جرؤ أحدُهم أن يؤتي فعلَه وينهب مالا حراماً ويخون أمانة مجتمعه.
كانت موريتانيا أمة كبيرة بوسائل متواضعة قليلة، لكنها كانت دولة الموظف الذي يخدم الدولة، وكان القانون في خدمة الدولة، والمؤسسات تخدم كيان الدولة، فجاءها العسكر بياتاً وأفسدوا الدولة كمؤسسة، ثم جاءت "ديمقراطية لابول" فأفسدت الإنسان وقلبت القيم وضاع كل شيء حميد.
انقذوا هذا البلد من "سياسييه"، وانقذوه من "أحزابه"، وانقذوه من "حقوقييه"، وازرعوا بيئة طاردة للفساد، فلا سياسيين به ولا أحزاب ولا حقوقيين، وإنما تجارُ مواقف وباعة أصوات يصادرون رأيَ المساكين المغلوبين المحتاجين باسم الأسرة والعشيرة والقبيلة والجهة والفئة.. ولا مستفيدَ غيرهم، والخاسر الأكبر والأوحد الدولة وعامة الشعب.
حملة الشهادات العليا يتصدرون الخطاب القبلي والعشائري والجهوي، فما الذي استفادوه من تحصيلهم المعرفي وما الذي استفاد البلد من تدريسهم والإنفاق على تكوينهم؟ وما فائدة المعرفة إن كانت لا تنير الطريق الصحيح.
إن ديمقراطيةً لا تنتج تنمية لا حاجة لأحد بها، و الحق في التعبير يسبقه ويسمو عليه الحق في الحياة، ولا حياة مع مَن يصادر أسبابَ الحياة من هؤلاء الذين يتصدرون المشهد ويدّعون أنهم ممثلون للشعب ونواب عنه. فكيف نزرع بيئة طاردة لهؤلاء؟
إما أن نبني نموذج "المستبد المستنير"، فلا نقيم انتخابات ولا مجالس نيابية ولا بلدية، وتكون الثروة بيد رجل مؤتمن عليها لا يبذرها ولا يظلم في صرفها، فيبني المنشآت والبنى التحتية والخدمية... ثم نقيم مؤسسات تعليمية حقيقية ونلزم الجميع بالتمدرس ونلزمهم بحصة يومية من التربية المدنية تعرِّف التلميذ والطالب على واجباته اتجاه بلده وشعبه وتبين له طرق الحكامة الرشيدة ومخاطر الرشوة والتبذير والمحسوبية والزبونية وكل ما يضر بأسس التسيير الصحيح للموارد.
لا ديمقراطية في الصين، لكنها أكبر اقتصاد في العالم؛ فالراشى هناك يدان بالقتل، ومثله المرتشي والفاسد والمفسد. ولا ديمقراطية في سنغافرورة، بل بحزبها الواحد سجلت أكبر دخل في العالم ومستوًى صفرياً من الرشوة، ولا ديمقراطية في كوبا، وبها واحدة من أحسن المنظومات الصحية والخدمية في العالم رغم حصار الجار الأميركي وتحقق مؤشرات تنموية مرتفعة، ولا ديمقراطية بالجزائر لكنها دولة قوية عزيزة وشعب قوي متماسك ومهاب.
وإما إن كان لا بد لنا من هذا النموذج الغربي، فلنجعل المسابقات طريق التوظيف الوحيد في المناصب الرسمية غير السياسية من أمناء عامين ومديرين ورؤساء مصالح وموظفين عاديين.. إلخ، فنحدد لكل وظيفة ملفاً تعريفياً، ومَن توفرت فيه الشروط يتقدم للمسابقة، فلا يعود التوظيف منة من أحد ولا يكون الموظف محمياً من أحد ولا دين في رقبته لأحد بل في خدمة بلده وليس في خدمة سلطان.
قد تكون الدعوة للتراجع عن الديمقراطية مثيرة وفيها غرابة كبيرة ورنينها بالأذن مستفز، لكن الواقع يبين أن من أسعد الأمم مَن لا ديمقراطية به وأن لا دولة واحدة من دول الجنوب كله كسبت من الديمقراطية الوافدة إليها إلا الخراب.
هناك ديمقراطية في الكونغو مزقت أوصاله وأخرى في مالي فتتت كيانه وديمقراطية بساحل العاج تقاتل في ظلها أهل الشمال وأهل الجنوب حول مَن هو إيفواري ومن هو غيره، وديقراطية في السودان قسمته لنصفين، وديمقراطية في ليبيا حولت سعادة الشعب "غير الديمقراطي" إلى جحيم بالديمقراطية، وديمقراطية في العراق مزقته أشلاء وأفقرت شعبه وأفنت شبابه بالاحتراب البيني والبطالة والجوع والمرض، وكان قبلها أمة عظيمة يوم لم يكن "ديمقراطيا"
فهل الديمقراطية غاية أم وسيلة؟ إن كانت وسيلة لرفاه الشعوب وتنمية البلدان فقد فشلت فشلا ذريعاً في الجنوب كله، وعلى دوله أن تنتج نماذج مشارَكة سياسية غير التي جربتها فأودت بكيانات ودول وشعوب وما أنتجت خيراً في بلد.
محمد ولد الراظي